الصفحة الرئيسية  ثقافة

ثقافة الشاعر منصف المزغني يكتب حول الراحل نجيب عياد..

نشر في  17 أوت 2019  (12:03)

بقلم : منصف المزغني

١- 
ماذا تقول الكلمات 
نجيب عياد غادر هذا العالم 
و نجيب شخصية ثقافية تفاعلية ، وفاعلة منذ سنوات الجمر التونسي في تلك السبعينات الفقيرة الغنية معا. المتعبة ، والمتطلعة ابدا الى النور … 
وأتذكر، مثل ابناء جيلي ، مفاوضات نجيب عياد مع وزارة الثقافة في سنوات السبعين والثمانين ، وكان يقيم أعراسا سينمائية في صيف قليبية ، مع نوادي السينما ورواد السينما القادمين من اعماق تونس ، ومع ضيوف هذه الايام من العرب او الأجانب القادمين بأفلامهم ، وافكار الممارسات الثقافية لأجل الثورة . 
قدرة نجيب عياد استثنائية على مراوغة السلطة البوليسية الثقافية ( او كما كنا نتوهم ) … 
٢- 
في تلك السنوات ( منذ 1972) كنا شبابا ،
وكنا نظن ان الحقيقة هي ملكيتنا الخاصة ، اَي ما نملكه نحن، وما نفكر فيه نحن ، 
اما من نحن ، فنحن جيل الثورة ، او باختصار اكثر ، نحن الثورة .

واما ايام نظام بورقيبة فقد باتت معدودة في زمن كان تمرير شريط نقدي او ذي نفس ثوري نوعا من المغامرة التي تستدعي البحث والتحقيق ، مخافة ان تتسرب الأفكار المناهضة للنظام التونسي القائم ،بادارة الوزير الاول الهادي نويرة خاصة ، 

وكان الفكر الماركسي قد بدا في الانتشار عبر كتب يتداولها شبابنا كما يتبادل المدمنون الحشيش المهرب والمسرب. 
٣- 
كان نجيب عياد سلطة شديد النعومة على شرطة ثقافية شديدة الغباء باستثناء بعض الموظفين المثقفين الذين يغضون الطرف عن شباب لم يجد في تلك السنوات “ النويرية الصعبة ، منفذا او منفعلى الثقافة والصحافة والحريات ، 
موهبة نجيب عياد تمثلت في أعصابه الباردة ( وعقله الساخن والحر ابدا ) مع قدرة على التفاوض مع من كانوا يسمون ( شرطة في وزارة الثقافة او الداخلية و اعوان النظام ، وحراس الدولة،) 
٤-
كان وهم جيلنا جديرا بالشباب ، وبدماء ذلك الشباب ، ولكنه كان حلما جماعيا ، وكان بعض الشباب الأكثر حلما ، لا يتنادى الا بعبارة ( رفيق ، رفيقة ، رفاق ، رفيقات ) ، وفي هذا الخضم ، في نوادي السينما ، كان نجيب عياد في ابتسامة لا تغادره ، وكم كان يموت على الضحك ، ويعتقد ان عليه ان يكون ( الرفيق الشيوعي طبعا ) 
وعليه ان يتعامل مع النظام البورقيبي الكومبرادوري ( العميل الاستعماري ) كما كنا نحرص على نعته باستمرار تأكيداً لموقف ثوري تقتضيه المرحلة … 
٥- 
ومع نجيب عياد في ايام رئاسته لنوادي السنما ، و مع حسن عليلش رفيقه العزيز أبقاه الله ، كنا جيلا غاضبا ، على كل شيء ، ونعتبر ان كل شريط ثوري يمر امام عيوننا خارج الرقابة هو مكسب ، وانتصار ، ونشوة لا توصف ، بل ، وعمل من أعمال النضال الثوري الثقافي 
نعم ، هكذا كنا نفكر ، 
لم يكن الامر مزاحا ،،، ابدا . 
٦- 
أما نجيب عياد ، فكان قريبا جدا من جمهور نوادي السينما، وكان الثوري الدافىء الهادئ ، وكان محبا وعاشقا أصيلا لفن السينما اكثر من حبه لتسجيل اسمه في قائمة المعارضين ،
كما كان نجيب ذا عين ذكية اثناء الفرجة ، فالسينما ليست خطابا وحيد اللغة ، وليس سياسة وحسب 
٧- 
في تلك السنوات كان الوعي منخفضا بفعل جفاف المعلومات ، والفهم فقيرا الى ما يجري في العالم الغني بالتناقضات ، 
ولكن كنا نرى أن الشريط ، اَي شريط ، هو حامل رسالة ايديولوجية ( حتى اذا كان يحكي عن الأسماك او الخرفان، او الحلزون ) وكان الشريط نوعا من النص الذي يستدعي تفكيك شفراته باستمرار . 
وهذا لم يكن غلطا ، 
ولكن المبالغة أوصلت البعض من المتدخلين الى اعتبار الشريط الذي يتحدث عن الأسماك في بحارها ، إنما يحكي عن الصراع الطبقي كما جاء في المثل الشعبي ( حوت يأكل حوت ، وقليل الجهد يموت ) الخ الخ الخ ... 
٨- 
ونجيب عياد كان موهبة ادارية نادرة في تمكين جيل من رؤية الأفلام الممنوعة ، قبل ميلاد الانترنت ، وثورة الاتصال التي بتنا نعرفها اليوم .
وان الدور الثقافي الديبلوماسي الذي نهض به نجيب عياد بكل مرونة ، كان دورا هاما في تكوين جمهور قادر على فهم الأفلام ، ودلالاتها بعيدا عن هذه السطحية . 

كان انتظار شريط ( ثوري ) او ( ممنوع ) للعرض في نوادي السينما نوعا من الحب ، ولونا من الثقافة ، ولكنه لون من التحزب السياسي وكان النقاش في نوادي السينما ( قبل التسييس التام ) مجالا للمعرفة ، وتوسيعا لآفاق جيل كان لا يرى من السينما الا ما تعرضه القاعات التجارية ، او ما تعرضه التلفزة الوطنية بين حين وحين. 
٩
نجيب عياد، وداعا ، اذا استطعنا لوداعك صبرا جميلا 
انت تقيم في الذاكرة الثقافية الملونة ، وما زرعته لن يموت ، 
ومغامراتك في الانتاج محسوبة لك في جهة الحسنات الثقافية ، في مجال السينما فرجة ونقاشا ، وانتاجا ، وإدارة وتنظيما ، وروح خلق واستشراف واستباق 
10 - 
كيف أقول بالدمع : شكرًا نجيب عياد 
انت تنبض في الذاكرة السينمائية ، مثل قلب يبتسم 
القلب الدي اتعبك 
وشمعتك السينمائية تضيء كما أضاء الطاهر شريعة ، ومنصف بن عامر ، وعفوا عن نسيان جنود اخرين ، وكل من ترك كل شيء وراءه ، لانه امن بأن السينما هي فن وجود ونظر ،،، ووسيلة لرؤية الحياة على شكل وردة حب ،لا تحيا الا بالنظرات . 
عزائي لأسرتك ، وللسيدة نجاة ، وكل أفراد الأسرة والاهل في قصر هلال العزيزة 
نجيب عياد ، 
لا أقوى الان ، ان اقول ما يجب ان يقال : وداعا يا نجيب الحبيب .

تونس الجمعة ١٦ أوت 2019 
اخوك : منصف